مدن التراب والملح
أثير مؤخرا اسم مدينة واد زم في وسائل الإعلام بوصفها المدينة التي تضم أكبر عدد من المحتالين الذين ينصبون على الناس بواسطة الانترنيت، وطبعا شعر العديد من المنحدرين من هذه المدينة بنوع من الحيف في حق مدينتهم التي كانت تسمى باريس الصغرى في الستينات والسبعينات.
المشكلة أنك بمجرد ما تكتب خبرا أو تنشر تحقيقا حول ظاهرة سلبية بمدينة صغيرة حتى تفاجأ بحجم الردود التي تؤكد جميعها أن مدينتهم كانت تسمى باريس الصغرى أيام الاستعمار، وأن زمن الاستقلال لم يضف أي شيء إلى المدينة، بل بالعكس تراجعت كثيرا.
وهكذا عبر قارئ «غيور» من مدينة ميدلت عن أحقية مدينته بلقب «باريس الصغرى»، لأن ميدلت التابعة ترابيا لعمالة خنيفرة كانت أول مدينة يتم تجهيزها بالكهرباء بعد مدينة الدار البيضاء. ولم أكد أنتهي من قراءة رسالة القارئ «الغيور» حتى وصلتني رسالة من قارئ «غيور» آخر يعاتبني على خطئي في إسناد لقب باريس الصغرى لمدينة واد زم، لأن اللقب حسب هذا اللقب يعود إلى مدينة وزان والذي حصلت عليه في الحقبة الاستعمارية. ودليل القارئ الوزاني على ما يقول هو وجود أدلة قاطعة على التشابه بين المدينتين لازالت قائمة إلى اليوم، ومنها وجود فصيلة من الأشجار تنمو في حديقة لالة أمينة بوزان جلبها الفرنسيون من حدائق باريس. إضافة إلى الملعب المحلي الذي يعتبر، حسب القارئ، ثاني منشأة رياضية في المغرب.
كما راسلني قراء آخرون ذكرهم تحقيقنا بمدنهم الصغيرة والمنسية التي ينحدرون منها، وأرادوا أن يعيدوا إليها الاعتبار بواسطة رسالة صغيرة تذكر بأمجادها الغابرة، قبل أن تطير الأمجاد وتبقى «الغبرة».
والغريب في الأمر أن كل باعثي الرسائل يتحدثون بفخر عن مدنهم أيام الاستعمار والسنوات القليلة التي تلت الاستقلال، ويعبرون عن حزنهم وأسفهم لما آلت إليه هذه المدن بمجرد ما بسط أولو الأمر أيديهم، وأرجلهم أحيانا، على تراب المملكة.
وبسبب الحنين الجارف إلى مسقط الرأس، يعتقد كل مغربي ينحدر من مدينة صغيرة أو قرية بعيدة أن منطقته كانت هي «باريس الصغيرة» في الماضي، ويحتفظ لها في ذاكرته بمكان دافئ، مثلما تحتفظ الجدات لأحفادهن بالقطع النقدية في الصرر المعقودة في أطراف مناديلهن.
عندما كنت مغتربا بأوروبا عشت وسط تجمعات كثيرة لمغاربة قادمين من مختلف ربوع المغرب. وكان كل واحد منهم عندما يبدأ في الحديث عن مدينته أو قريته ترى كيف تمتلئ عيناه ببريق حاد، وكيف يجتهد لتحويل مسقط رأسه إلى مدينة خيالية لا وجود فيها للحزن والشجن. مدينة مثالية، لا تختلف عن باريس في شيء، بشهادة المستعمرين الفرنسيين أنفسهم. وفي الوقت نفسه كان كل واحد منا يقدم مدينته كمنجم رئيسي لاستخراج الشهداء والمقاومين الباسلين الذين حرروا المغرب من هؤلاء المستعمرين الفرنسيين، الذين حولوا مدننا البائسة إلى باريس صغيرة.
وعندما زرنا باريس الحقيقية اكتشفنا كم كنا واهمين ونحن نعتقد أن مدننا الصغيرة تشبه باريس فعلا. اكتشفنا كم كذب علينا هؤلاء الفرنسيون عندما أقنعونا بأن مجرد جلب شجرتين من باريس وغرسهما في حدائق مدننا الصغيرة يكفي لكي تتحول هذه المدن إلى أخت من الرضاعة لباريسهم.
لكن، لهذا الحنين المفرط للماضي من جانب المغاربة ما يبرره. فأغلب المدن التي استقر فيها الاستعمار الفرنسي والإسباني وشيد معالمها العمرانية ومؤسساتها الرسمية، تأسست فيها تقاليد وعادات مدنية رسخها الأوربيون. فالثانويات التي كان يدرس بها الأجانب آنذاك كانت لا تقتصر على التعليم وإنما تشمل التربية أيضا. ويحكي قدماء التلاميذ أن إعدادية زياد التي درست فيها ودرس فيها والداي من قبلي، كانت شبيهة بثكنة عسكرية للتربية والتكوين أكثر منها مجرد مؤسسة تعليمية.
وكانت تقف أمام باب الإعدادية سيدة مكلفة بمراقبة شعر التلاميذ وأظافرهم ونظافة وجوههم. وبمجرد ما تلمح تلميذة بشعر مبعثر أو تلميذا بأظافر طويلة حتى تعيده إلى بيته وتأمره باصطحاب ولي أمره في الغد.
وكان التعليم يشمل كل مناحي الحياة العملية للتلاميذ، فقد كانوا يتلقون دروسا في الطبخ والأعمال المنزلية والميكانيك، بالإضافة إلى المواد الأخرى الأساسية.
وأذكر أنه في منتصف السبعينات كانت مسقط رأسي مدينة ابن سليمان تتوفر على شاحنة تنظيف خاصة بكنس الأزقة ورشها بالماء. وهي الشاحنات التي انقرضت فجأة ولم تعد للظهور إلا في الصويرة وبعض المدن الكبرى في السنوات الأخيرة. وفي الثمانينات قرر الحسن الثاني أن يحول مدينة ابن سليمان إلى مدينة سياحية، وأن يمنع بناء المصانع والمعامل داخلها. فحول إدريس البصري كل طلبات المقاولين لبناء مصانع ومعامل إلى المنطقة الصناعية بسطات، مسقط رأسه. وأمر ببناء الحدائق في مدينة ابن سليمان ليحقق رؤيا الملك الذي تنبأ بمستقبل سياحي للمدينة.
غير أن الزوار الوحيدين الذين ظلوا يأتون إلى المدينة هم أسراب النحل والفراشات التي كانت تأتي مع موسم الربيع. أما عندما يحل الصيف فكانت المدينة تستقبل زوارا مزعجين يقيمون بيننا لثلاثة أشهر كاملة وهي أسراب البعوض والناموس التي شيد لها البصري، غفر الله له، بحيرات في الغولف الملكي الذي ظل يسقيه من مياه الشرب. فكان البعوض والناموس عندما يشبع من شرب مياه الغولف في النهار يأتي إلى بيوتنا ليلا ليشبع فينا نحن عضا ويمتص دماءنا المتبقية التي تركتها فواتير وكالة الماء الصالح للشرب.
وعندما عين البصري ابن أحد المقدمين بإحدى بوادي سطات عاملا على المدينة، اشترى هذا الأخير أشجارا من البرازيل قيل لنا إنها أشجار باهظة الثمن ولديها قدرة على تطهير الجو من التلوث بسرعة فائقة. لكن الشيء الوحيد الذي تأكد لنا بالملموس هو قدرة تلك الأشجار السريعة على النمو، ومساهمتها الفعالة في اقتلاع جذورها الضخمة للأرصفة التي تنمو فوقها. وبعد أفول نجم البصري وإدخال عامله الوفي إلى حظيرة وزارة الداخلية قبل إجباره على تقديم استقالته والركون إلى الصمت، اقتلعت البلدية تلك الأشجار البرازيلية التي دمرت جذورها الأرصفة وعوضتها بأشجار برتقال ونخيل تركت أمر سقيها لرحمة السماء.
سيقول أحدكم إنني بدأت باستعراض رسائل القراء الغيورين الذين يتحدثون حول مدنهم، وانتهيت أتحدث عن مدينتي أكثر مما صنعوا هم. والحقيقة أنني لم أشعر بنفسي إلا وأنا غارق في هذا الحنين الجارف الذي يطوقك بمجرد ما يذكرك أحدهم بمسقط رأسك. وشخصيا لا يستطيع طعم أغلى عصير فواكه في العالم أن ينسيني طعم ذلك العصير الذي كنا نستخرجه من البرتقال المر الذي يتدلى من أشجار البلدية في الشارع، والذي كنا ندس فيه جعبة «الستيلو» الفارغة ونضع في أفواهنا قطعة من السكر ونبدأ في امتصاص عصيره المر. كما لن تستطيع أشهى الأطباق أن تنسيني مذاق طيور السمان المشوية فوق نار هادئة في «ضاية عبو» التي سرقوها منا وشيدوا فوقها ذلك الغولف الذي يبيعون اليوم فيلاته بمئات الملايين وشقق عماراته بمئات الملايين.
لن أنسى حقول فول «خالي عبد الكبير»، الرجل الطيب الذي كنا نغافله ونملأ بحبات فوله جيوبنا عندما يداهمنا الجوع في الحقول التي تحيط بالمدينة كحزام أخضر موشى بالزنابق والنباتات الوحشية. كما لن أنسى حقول «جلبانة» التي كنا أخطر عليها من طيور «الجوش». ورغم تذوقي لشتى الأكلات والأطعمة في أكثر من قارة، إلا أنني لازلت أحن إلى وضع ساق من سيقان نبات «الحميضة» بين أسناني، والاستمتاع بحموضتها الرائعة.
ولازلت أحن إلى طعم «الخشلاع» البري وثمار «الغاز» اللذيذة التي تنمو عند أقدام سور المقبرة حيث كانت «الشريحة» التي تتركها زائرات الموتى في الضريح بالنسبة إلينا أشهى من أي طعام آخر في العالم.
من حق كل مغربي أن يعتبر مدينته أجمل المدن وأكثرها روعة على وجه هذه البسيطة. فكل مواطن يرى في مسقط رأسه مبتدأ العالم ومنتهاه. لأنه لكل واحد منا في مدينته ذكرياته الجميلة والحزينة، مغامراته الأولى، وقصص حبه العذري التي لا تنسى.
لكل منا في مدينته ثأر قديم ودين في عنقه يتمنى أن يمتلك ذات يوم ثروة بيل غيتس لكي يعود إليها وبضربة عصى سحرية يحولها إلى باريس حقيقية، عوض الاكتفاء بأكذوبة لقب «باريس الصغرى».
0 تعليقات
الصفحة رسمية لجريدة الأخبار المغربية