عمود "شوف تشوف" لعدد يوم الجمعة 27 يونيو 2014



الدعارة فيها وفيها

في إحدى المقابر المغربية كان نفر من المشيعين يدفنون أحد أموات المسلمين، فمر بالقرب منهم أحد العابرين وسألهم من يكون الميت. فأجابه أحدهم بأنه سياسي نظيف.
فابتسم مستغربا وسألهم كيف تدفنون رجلين في قبر واحد. فأجابوه مندهشين من كلامه بأنهم لا يدفنون رجلين في قبر واحد وإنما رجلا واحدا فقط. فقال لهم إن الرجل في المغرب لا يمكن أن يكون سياسيا ونظيفا في الوقت نفسه.
طبعا، صاحبنا يعمم حكمه على جميع السياسيين، وفي هذا غبن لقلة قليلة منهم يصرون على المحافظة على نظافة ذممهم وسط الوحل الذي يشتغلون فيه.
وعندما تحدثت البرلمانية الاستقلالية خديجة الزومي، التي أستغل المناسبة لشكرها كونها امتلكت الجرأة التي افتقدها كثيرون وطرحت سؤالا في البرلمان حول قضيتي عندما كنت في السجن، عندما تحدثت حول عائدات الدعارة التي تساهم في الموازنة العامة، فإنها لم تكن مخطئة في ما ذهبت إليه.
الحديث عن عائدات الدعارة وتجار اللحم الآدمي يجر إلى الحديث عن تجار عالم الليل. وفي العاصمة وحدها بدأت تعرف ظواهر مرتبطة بالعروض المثيرة جنسيا لمرتادي العلب الليلية انتشارا متزايدا، حتى أصبح التنافس على أشده بين أصحاب هذه العلب الملتهبة يوحي بأن هؤلاء يتوفرون على حصانة تنجيهم شر المتابعة.
أحد هؤلاء أبوه كولونيل متقاعد في الدرك كان لديه في الأول محل يستغله كمقهى، فحصل على رخصة بيع الخمور بمساعدة زوجته التي ضبطها في أحضان امرأة فطلقها، وحول المقهى إلى بار.
هذا الشخص المشهور ببيع الخمور في رمضان بالنوار، يبحث لكي يربح المال بأية طريقة، إلى حد أنه جلب راقصات يقمن بالتعري ويرقصن بالسليب.
وهو يستعد لكي يأتي بالتسونامي، الشيخة طبعا وليس الكارثة الطبيعية، لكي تحيي له ليالي رمضان في الكباري الذي يدير.
لكن في نظري أخطر نوع من أنواع الدعارة ليس تلك التي تمارسها النساء التعيسات الباحثات عن لقمة العيش المغموسة في عرق الذل، بل هي تلك التي يمارسها السياسيون الذين يتنقلون بين مقرات الأحزاب مثلما تتنقل العاهرة بين أسرة زبائنها، ويغيرون مبادئهم أكثر من تغيير العاهرة عشاقها.
مثلما للعاهرات أرصفتهن التي يعرضن عليها أجسادهن، هناك رصيف خاص بالسياسيين يعرضون فوقه بكارتهم السياسية لمن يدفع أكثر.
ورصيف السياسيين هو «الموقف». و«الموقف» في المغرب كلمة تعني شيئين اثنين، أولا الموقف كفكرة يؤمن بها الإنسان ولا يقبل أن يغير «كبوطه» بسببها ولا أن يغير البندقية من كتف إلى كتف عند أول امتحان. ثم هناك ثانيا «الموقف»، ذلك المكان الذي يأتي إليه كل من يقف على باب الله بانتظار من يشحنه في سيارته أو شاحنته ليشغله في الحقل أو البناء أو ما شابه.
والواقع أننا في المغرب لا نلمس فرقا كبيرا بين الموقفين، فمثلما «للمواقفية» موقفهم الذي يقصدونه كل صباح، فالسياسيون أيضا لهم «موقفهم» الذي يقفون فيه على باب الله بانتظار أن يأتي تعديل وزاري أو حملة انتخابية، ويتم اختيارهم من بين الواقفين في الصف الطويل للراغبين في تذوق عسل الوزارة.
ولكل سياسي «رصيفه» الثابت الذي يأتي إليه كل صباح بانتظار يوم السعد، ولكثرة ثبات بعضهم في مواقفهم أصبحوا معروفين عند «طاشرونات» الحكومة ومنعشيها العقاريين الذين يمسكون «شانطيات» التعديلات الوزارية وينزلون إلى الشارع السياسي ليتخيروا في الرؤوس.
«الموقف» فيه وفيه. فيه ذوو العاهات المستديمة. فيه العرض والطلب، وفيه «الشناقة» واللصوص الذين يضربون «البزاطم». و«الموقف» السياسي فيه وفيه أيضا. فيه الراسخون في المعارضة، الذين يرونها دائما معزة ويصرون على بقائها معزة ولو طارت.
فيه الراسخون في الولاء والراضخون المرضي عليهم الذين لكثرة انحنائهم أصبح من الصعب عليهم أن يقفوا موقفا سليما دون أن يصابوا بآلام مبرحة في الظهر. فيه أصحاب السعادة الذين يبدو أنهم سجلوا هذه السعادة بأسمائهم وأسماء زوجاتهم وأبنائهم وحرموا منها بقية أبناء الشعب. فيه أبناء العائلات الكريمة التي تتوارث الوزارات أبا عن جد، والتي لا يستريح لها بال حتى تصحب معها أبناءها وعقيلاتها إلى قبة البرلمان إلى جانب الأزواج المحترمين.
«الموقف» ليس دائما مكانا تحت الشمس الحارقة يقف فيه الإنسان على باب الله. «الموقف» يمكن أن يكون مقعدا مريحا يجلس فوقه أصحاب المواقف ويدورون معه أينما دار بهم. ويمكن أن يكون ديوانا وزاريا بالنسبة إلى أصحاب «المواقف» الصلبة التي لا تلين إلا بالسيارة التي تحمل شارة الحكومة.
الموقف السياسي كان إلى عهد قريب يقود صاحبه إلى السجن، أما الآن فإذا لم يقد صاحبه إلى إحدى الوزارات، فإنه يمكن أن ينتهي به مصفقا وراء مظاهرة أو بـ«كشكوشة» خارجة وراء أحد الميكروفونات المنتشرة هذه الأيام في كل مكان.
«الموقف» إذا لم تعرف كيف تقف فيه، يمكن أن تقضي حياتك كلها بانتظار من يشتري منك مواقفك المصيرية، وفي آخر العمر عندما ترى أن كل رفاقك تخلوا عن مواقفهم و«ضربوا» أيديهم، بعد أن غيروا المعطف وأصبحوا يسكنون في الفيلا ولديهم سائق خاص، تجمع كل مواقفك في كتاب مذكرات وتبيعها بالجملة لإحدى دور النشر.
كثيرون أتوا إلى «الموقف» ودسوا رؤوسهم بين الرؤوس، منتظرين أن يأتي «قطاع الريوس» ويقطفهم لكل يعلقهم على باب الحكومة الموقرة. لكن لسوء حظهم بقوا ثابتين على «الموقف» إلى أن طابوا من الوقوف و«خمجت» رؤوسهم وسقطت. فهؤلاء السياسيون المساكين لم يستفيدوا من الدرس الذي تقدمه الطبيعة لبني البشر، والذي حكمته تتجلى في أن الثمرة الناضجة هي أول ما يسقط من الشجرة. فهم لفرط نياتهم الحسنة لم يفهموا أن العمل الحكومي عندنا يتطلب قليلا من عدم النضج، أي بالعربية «تاعرابت» أن يكون «بنادم باقي خضر شوية»، لأن عمر العمل الحكومي طويل وفترة «الخموجية» تأتي من بعد وليس قبل الاستوزار. وأمامه أمثلة لوزراء «خضر» كثيرين كأوزين والخلفي ومبدع والكروج وبوليف الذي أصبح يسبق القضاء في إصدار الأحكام على المتهمين.
ويبقى أن أصحاب الموقف الذين ينتظرون كل صباح من يشحنهم إلى الحقول أو أوراش البناء في شاحنته، والبنات اللواتي يقفن فوق الرصيف بانتظار زبائنهن، أنقى وأطهر بكثير من بعض السياسيين الذين يتوافدون كل صباح على «الموقف» السياسي بانتظار من يشحنهم إلى دواوينهم الوزارية. فهؤلاء على الأقل يصورون خبزهم من عرق جبينهم ويقطفون الثمار من الحقول ويبنون البيوت بعضلاتهم، وليسوا مثل بعض السياسيين الذين يقطفون ثمار غيرهم ويبنون مستقبلهم على ظهر الجماهير التي ظلوا يخدعونها بمواقف راسخة اتضح في الأخير أنها لم تكن سوى «مواقف» مخجلة.

إرسال تعليق

0 تعليقات