عمود شوف تشوف عد الخميس 19 يونيو 2014




هكذا تكلم المهدي المنجرة

للعالم الراحل المهدي المنجرة رحمه الله أفكار ستبقى راسخة في الأذهان. ولذلك فمن يعتقد أن المهدي مات مساء الجمعة الماضي فهو واهم، لأن من يخلف وراءه الكتب والأفكار النيرة التي تسير على هديها الأجيال من بعده لا يموت، بل يظل ضاجا بالحياة أكثر من الأحياء أنفسهم.

كان لدي شرف لقاء الدكتور المهدي مرتين بشكل مباشر بمدريد، وكان لدي شرف لقائه بشكل غير مباشر مئات المرات، عبر حضور محاضراته والاستماع إلى مداخلاته التي كانت تسجل في أشرطة الفيديو وتوزع نهاية الثمانينات وبداية التسعينات تحت المعاطف مثل المواد المهربة.
فأفكار الرجل كانت ذات وقت أشبه بأصابع الديناميت، قليل منها يكفي لتفجير الوضع الاجتماعي والسياسي الملتهب. ولذلك وجد نفسه ذات يوم مضطرا لجمع حقيبة سفره وطي حاسوبه الشخصي الذي كان يحلو له تسميته «إيطو»، والذي كان من أوائل أجهزة الحاسوب التي تم استعمالها في المغرب والعالم العربي، والهجرة نحو اليابان.
فقدر الرسل والأنبياء والعلماء أن يضربوا في الأرض وأن يهاجروا بعلمهم وأفكارهم ووحيهم عندما تصبح الحياة في بلدانهم بين الجهلاء والجبناء والطغاة من أهلهم وذويهم صعبة.
في مقهى الفندق الجميل الذي نزلت فيه بمدريد بدعوة من جمعية لطلبة مغاربة يدرسون هناك جلست أفطر بجانب الدكتور المهدي. أذكر أنه لم يأكل شيئا، بل اكتفى بفنجان كبير من القهوة السوداء، فيما عيناه المليئتان بذلك البريق الذي يتطاير من مقل النوابغ كانتا تمسحان المكان بدقة.
كنت مأخوذا بمراقبة حركاته وسكناته، ولذلك لم أتبادل معه سوى كلمات معدودة. فيما هو كان يتحدث بعصبية، أدركت في ما بعد أن تلك العصبية تلازمه دائما وأنها طريقته الخاصة في الكلام.
بعد سنوات، وبالضبط عام 2007، سأتلقى اتصالا هاتفيا منه وأنا جالس في مكتبي أكتب. تبادلنا عبارات المجاملة والمودة، ومر الدكتور المهدي مباشرة إلى صلب الموضوع. كان يسأل إن كنت أقبل بتسلم جائزة المهدي المنجرة للدفاع عن الكرامة التي يمنحها كل سنة، ودون تفكير قلت للسي المهدي إن مجرد التفكير في منحي هذه الجائزة يعتبر تشريفا كبيرا لي، وإنني أقبل ذلك بدون تردد.
فتم تنظيم حفل صغير وبسيط حضره أصدقاء مشتركون، وبعدها أصبح الدكتور المهدي يزور مقر الجريدة في كل مرة يأتي فيها إلى الدار البيضاء، إلى أن أصبح عاجزا صحيا عن مغادرة بيته، فاعتكف بعيدا عن الأضواء إلى أن مات «حرا شريفا» كما قال الصديق أحمد السنوسي. 
الآن بعد رحيله سيقبل الناس على كتبه، وسيعثرون على شذرات مضيئة في هذا الليل الذي تملؤه الهوام والحشرات الباحثة عن الضوء.
سيكتشفون أن المهدي هو القائل:
«عندما أراد الصينيون القدامى أن يعيشوا في أمان، بنوا سور الصين العظيم واعتقدوا بأنه لا يوجد من يستطيع تسلقه لشدة علوه، ولكن !
خلال المائة سنة الأولى بعد بناء السور تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات، وفي كل مرة لم تكن جحافل العدو البرية في حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه، بل كانوا في كل مرة يدفعون للحارس الرشوة ثم يدخلون عبر الباب.
لقد انشغل الصينيون ببناء السور ونسوا بناء الحارس، فبناء الإنسان يأتي قبل بناء كل شيء، وهذا ما يحتاجه طلابنا اليوم. يقول أحد المستشرقين «إذا أردت أن تهدم حضارة أمة فهناك وسائل ثلاث هي:
أولا اهدم الأسرة، ثانيا اهدم التعليم، ثالثا أسقط القدوات والمرجعيات.
ولكي تهدم الأسرة عليك بتغييب دور الأم، عليك أن تجعلها تخجل من وصفها بـ«ربة البيت».
ولكي تهدم التعليم عليك بالمعلم، لا تجعل له أهمية في المجتمع وقلل من مكانته حتى يحتقره طلابه.
ولكي تسقط القدوات عليك بالعلماء، اطعن فيهم وشكك فيهم، قلل من شأنهم، حتى لا يسمع لهم ولا يقتدي بهم أحد.
فإذا اختفت الأم الواعية واختفى المعلم المخلص وسقطت القدوة والمرجعية فمن يربي النشء على القيم؟».
هذا هو السؤال الجوهري الذي يلخص كل عمل الدكتور المهدي المنجرة، إنه سؤال القيم.
أو بعبارة أخرى، سؤال المعنى.
وسط زحمة الحياة وما نعتبره تقدما، نكتشف أن أشياء كثيرة فقدت معناها. بدءا من السياسة والنضال والالتزام وانتهاء بالحب والصداقة. 
عندما وقف الطاغية نيرون في شرفة قصره يتمتع برؤية روما وهي تحترق بكامل مجدها، كان يقف إلى جانبه مرافقه الفيلسوف. فسأل نيرون فيلسوفه كيف وجد منظر روما وهي تحترق، فأجابه هذا الأخير :
- «سيدي الإمبراطور، إذا أنت أحرقت روما يا فسيأتي بعدك من يعيد بناءها، ربما أحسن وأروع مما كانت عليه. لكن الذي يحز في نفسي هو أنني أعلم أنك فرضت على شعب روما تعلم شعر رديء، فقتلت فيهم المعاني، وهيهات إذا أنت قتلت المعاني في شعب أن يأتي من يعيد إليها الحياة من جديد».
هذه الحكاية التاريخية تفيد في تأمل حالنا نحن المغاربة اليوم. فما وصلنا إليه من انحطاط ثقافي وأخلاقي ليست له أسباب مادية وإنما كل أسبابه مرتبطة بالتربية، أو بسوئها على وجه الدقة. يعني أن مشكلتنا الحالية في المغرب ليست اقتصادية ولا سياسية، وإنما هي مشكلة أخلاقية تربوية بالأساس. والسبب كما قال المهدي هو تبخيس دور المربين، من الأم إلى العلم إلى العالم.
فقد تم قتل الوطنية التي هي جوهر بقاء الشعوب وتطورها، وحولوها إلى مجرد وسام تافه يعلقه بعض المخصيين وعملاء الاستعمار ولاعقي الأحذية في المناسبات الوطنية. أما المقاومون الحقيقيون الذين وهبوا أرواحهم لكي يعيش الوطن حرا فقد أطلقوا أسماء بعضهم على الأزقة، وفي الوقت نفسه فرقوا أبناءهم على الأزقة بعد أن أغلقوا في السبعينات المدرسة التي بناها محمد الخامس ليدرس بها أبناء الشهداء.
قتلت النخوة والكرامة في النفوس، وتحولنا إلى مجرد قطعان تساق نحو المراعي طيلة النهار وتعود إلى الحظيرة كل مساء. والنتيجة أنهم نجحوا في تربية أجيال من الخرفان يكفي أن تقود واحدا منها من قرنيه حتى يتبعه الآخرون مهرولين. ولا يهم إن كانوا يتجهون بأرجلهم نحو المجزرة، فالاحتجاج هو آخر ما تتعلمه الخرفان. وحتى إذا ما احتجت فغالبا ما يحدث عندما يقرب الجزار السكين من العنق، أي بعد فوات الأوان.
قتل الحب في النفوس، وتعهدنا بالرعاية حبا واحدا لا شريك له هو حب المال والسلطة والذين يدورون في فلكها. حتى أصبح بعضنا بسبب المال يبيع أعراض بناته في أسواق النخاسة العالمية.
لذلك فأزمتنا الحقيقية هي أزمة قيم قبل أن تكون أزمة اقتصاد وسياسة.
السياسة عندنا لا أخلاق لها، وأغلب السياسيين يعطون نموذجا مسطحا وانتهازيا وجد متسلط لرجل السياسة. حولوا أحزابهم إلى مقاولات وشركات غير محدودة يستثمرون فيها أسهم النضال ويتاجرون بالقتلى والشهداء والجثث ومجهولي المصير للحصول على المزيد من المساهمين بين الأحياء. يوهموننا بأنهم يصالحوننا مع الماضي، في الوقت الذي يخاصموننا بشدة مع الحاضر.
التربية والتعليم انعدمت فيهما الأخلاق وأصبحا مجالا للربح والاستثمار والمزايدات النقابية الرخيصة، وأصبح مستقبل الأجيال مجرد ورقة ضغط في يد محتالين حزبيين همهم الوحيد هو تسلق السلالم الإدارية، حتى ولو كان ذلك فوق ظهور تلاميذ أبرياء.
ولكم نحن مشغولون بالبناء والتشييد وترميم الحيطان والأسوار، وفي الوقت ذاته نحطم أهم جدار واق يضمن أمن الوطن. جدار المعاني والقيم. فالشعب لا يحيا فقط بالخبز والماء، وإنما يحيا أيضا بالمعاني.
الحيطان والأسوار والطرق إن تهدمت سيأتي من يعيد بناءها من جديد، أما المعاني إذا ماتت في نفوس المواطنين فهيهات أن يأتي من يحييها ذات يوم من جديد. وصدق «ناس الغيوان» عندما أنشدوا ذات زمن «ماهموني غير الرجال إلى ضاعو الحيوط إلى رابو كلها يبني دار».
وهو المعنى ذاته الذي رمى إليه الشاعر الرائع محمود درويش عندما أنشد:
نيرون مات ولم تمت روما
بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تموت
فتملأ الوادي سنابل..
رحم الله الدكتور المهدي المنجرة، وأطال الله في عمر علمائنا المتبقين على قيد الحياة.

إرسال تعليق

0 تعليقات