عموده "شوف تشوف" حيوانات سياسية



أثير قبل يومين نقاش جانبي يبن سياسيين ينتميان إلى حزبين يقفان على طرفي نقيض في كل شيء. فقد قال محمد الساسي, المنتمي إلى اليسار الاشتراكي الموحد, إن النظام المغربي وجد أمامه حيوانات سياسية أليفة في شخص حزب العدلة والتنمية. فما كان من رئيس منتدى الكرامة, وعضو الأمانة العامة للعدالة والتنمية, حامي الدين, سوى أن قال جوابا على كلام الساسي إنهم في الحزب "ما مساليينش ليه".


وربما اعتقد الإخوان في العدالة والتنمية أن وصف "الحيوان السياسي" فيه تنقيص من قيمتهم, وهذا خطأ كبير. فتعبير "الحيوان السياسي" لا يطلق عادة سوى على الزعماء السياسيين المحنكين. من الحنكة وليس "الحناك" طبعا.



وربما كان توصيف ""الألفة الحيوانية" التي قرنها الساسي بحزب العدالة والتنمية هو ما أزعج قياديي هذا الحزب الذي يوجد اليوم في "سدة الحكم", ومع ذلك يريد أن يحتفظ لنفسه بصورة الحزب الذي يمتلك مخالب وأنيابا يدافع بها عن نفسه ضد كل الحيوانات الضارية التي تتربص به الدوائر.


قبل حوالي عشرين سنة صدر في فرنسا كتاب ساخر عنوانه "هذه الحيوانات التي تحكمنا", خص فيه مؤلفه "رامبال" كثيرا من الزعماء السياسيين بالنقد اللاذع, إذ أنه اجتهد في البحث عن الأصل الحيواني لكل رئيس أو زعيم. فرسم مثلا الملكة إليزابيت وأخضع ملامحها لريشته الساخرة إلى أن وصل بعد خمسة رسوم أو ستة إلى الحيوان الذي يجلس رابضا وراء ملامح الملكة. وأعتقد إذا لم تخني الذاكرة أنه وجدها في الأخير نعجة.


كما توصل بحاسته الساخرة إلى أن أصل الإمبراطور هيروهيتو, بجلالة قدره, نملة. فيما ميناحيم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي هزم العرب في كل حروبهم التي خاضوها ضده وجد أن أصله سحلية. أما الراحل ياسر عرفات فقد عثر له في وجه الجمل على شبيه بعد أن وضع فوق رأس الجمل المبتسم كوفية فلسطينية وعقالا. وحتى لا يتهم أحد مؤلفي الكتاب, الرسام والصحافي, بالعنصرية فإنهما افتتحا الكتاب بجاك شيراك ورسموه بأنفه الطويل إلى أن استقرت ريشة الرسام الشقي على رأس ديك منفوش الريش ومنقار بارز يشبه أنف شيراك البارز.


وبعد صدور الكتاب حقق أرقام مبيعات قياسية, وما زال معروضا للبيع على الإنترنيت إلى اليوم. في كل الديمقراطيات الحقيقية يصف الصحافيون ورجال الإعلام والأكاديميون رجال السياسة الأقوياء بالحيوانات السياسية. وطبعا فالقب "الحيوان السياسي" لقب لا يطلق على أي كان. وكما أن هناك "حيوانات سياسية" فهناك أيضا "حشرات سياسية" تعيش حيثما كان العفن والماء العكر.


الحيوانات السياسية غالبا ما تكون مفترسة, تتشبه بالسباع والضباع والفهود. لكن هناك نوع آخر من الحيوانات السياسية تختار الدهاء والمكر والخديعة, ومثلها الأعلى هو الذئب والثعلب. لكن هناك حيوانات سياسية أخرى تحتار نفاق التماسيح. وعندنا في المغرب محميات طبيعية واسعة حيث ترتع هذه التماسيح السياسية وتعيش, والتي اكتشفها رئيس الحكومة بمجرد ما صعد إلى "سدة الحكم". ومعروف عن التمساح أنه عندما يلتهم ضحيته, يبدأ في ذرف الدموع. ليس حزنا على ضحيته وإنما لأن عملية الهضم المعقدة التي يقوم بها الجهاز الهضمي للتمساح تتطلب ذلك. أي أنه يبكي لكي يهضم ضحيته بشكل أفضل.


وفي المغرب هناك وزراء يوقعون على قرارات سياسية ضد مصلحة المواطنين وفي الغد يقفون إلى جانب هؤلاء المواطنين لكي يبكوا معهم.


وبالإضافة إلى التماسيح السياسية هناك "الجراثيم السياسية" التي تتكاثر حول البركة المتعفنة التي يسمونها السياسة.


وكما أن هناك حيوانات تعطينا دروسا في الانتهازية والمكر والخديعة, هناك حيوانات أخرى تعطينا دروسا عميقة في الحياة. بالنسبة إلى السياسيين فالحيوان المثالي الذي يجب أن يتعلموا منه الدروس هو الفيل.


فهذا الحيوان أولا لديه ذاكرة قوية, والذاكرة هي أهم جهاز يجب أن يحافظ عليه السياسي, لأنها تجنبه آفة النسيان. حتى لا يخطئ المعركة ويخلط الجلاد بالضحية, ويضع رجله في المكان الخطأ ويده في يد الحليف الخطأ.


ثانيا عندما يشعر الفيل بقرب نهايته يجرجر أقدامه الثقيلة إلى مقبرة الفيلة ويجثو على ركبتيه بانتظار النهاية. فهو يجنب أشباهه رؤية العجز الذي يصل إليه حيوان ينحدر من آخر سلالة الحيوانات القادمة من العصر الحجري.


ولعل رجال السياسة عندنا يحتاجون إلى تعلم أخلاق الفيلة, بحيث ينسحبون إلى الظل بمجرد ما يشعرون باقتراب نهايتهم السياسية.


المشكلة أن أغلب ""الحيوانات السياسية" عندنا مولعة فقط بتقليد الضباع والتماسيح والثعالب والقردة, لكن القليل منها يبدو معجبا بنموذج الفيل.


فهم يصرون على البقاء في "الحديقة" يتفرج عليهم العابرون, إلى أن يأتي من يطردهم منها أو يجهز عليهم بطعنة غادرة في الظهر.


ما أحوجنا في هذه الظروف السياسية العصيبة التي يجتازها المغرب إلى كتاب مثل "هذه الحيوانات التي تحكمنا", حتى نتعرف على الوجوه الحقيقية الخفية لهذه الحيوانات السياسية التي تتنكر لنا كل يوم في صورة بني آدم.


ومن يتأمل قليلا هذه الساحة السياسية المغربية بحثا عن وحوش سياسية, سيجد أن هذه الفصيلة انقرضت, وكل ما تبقى حيوانات سياسية منزوعة الأنياب والمخالب. أكثرها نعاج وخراف متنكرة في جلود سباع ونمور وفهود.


وكم هو مؤسف أن نرى أحزابا دفع مناضلوها ثمن مواقفهم السياسية من دمائهم وحريتهم, يتباكى أعضاؤها اليوم في حفل عزاء جماعي على الماضي وينخرطون في نحيب طويل وهم يذكرون بمناقب شهداء الحزب وقتلاه, وكأن أصحاب هذه البكائيات الحزينة يعتقدون أن المستقبل السياسي للمغرب سيبنيه الموتى وليس الأحياء.


إن ما لا يريد هؤلاء الذين يحنون إلى الماضي الاعتراف به هو أن أحزابهم لم تعد تضم بين صفوفها حيوانات سياسية تستطيع أن تكشر عن أنيابها وتعارض بقوة كما كان يفعل عبد الرحيم بوعبيد وعلي يعتة وبوستة وبنسعيد وغيرهم.


فطيلة الحكومات التي قبلت هذه الأحزاب المشارك فيها عمل النظام السياسي على تقليم أظافرها ببطء واقلاع أنيابها بعد حقنها بمخدر موضعي دام سنوات في عيادة الحكومة الدافئة.


والنتيجة هي ما نرى اليوم, غياب فاجع للمعارضة السياسية, وللصوت الذي يقول لا ويتشبث بموقفه وسط الإعصار.


عندما تنقرض الوحوش السياسية الكاسرة, فإن الحيوانات السياسية الداجنة تملأ الحظيرة. وتتسابق للاصطفاف وراء طابور طيور الببغاوات السياسية التي لا تحسن غير تكرار أغنية الموسم.


ولعل واحدة من أجمل وأعمق القصص تلك التي تحكي قصة "الحيوانات المريضة بالطاعون", والتي تحكي حول اجتماع ضم الأسد وأركان مملكته من الذئب والنمر والثعلب وباقي الحيوانات الأخرى وصولا إلى الحمار.


والهدف من الاجتماع هو البحث عن المتسبب في مرض الطاعون الذي حل بالمملكة, فقال الأسد :
- نحن اجتمعنا ههنا حتى نرى في أمرنا, حل بنا الطاعون المرض الملعون, بعدا له من داء مستصعب الشفاء, وقد رووا أن السلف قديما أسروا للخلف أن الوباء يقرب من كل قوم أذنبوا, لكنهم إن أعرضوا عنه يزول المرض.
فلنعترف بما بدر منا وما عنا استتر, ثم نضحي المفسدا و من على الخلق اعتدى.


فأجابه الثعلب الماكر :
- ذاك هو الرأي الصواب يعيش مولانا الأسد, كل سيبدي رأيه ليذب عن أهل البلد.


فانطلق الأسد يعدد جرائمه وفرائسه معترفا :
- أما أنا فإليكم يا قوم رأي بي إنه الرأي الصريح, كم من قبيل قد تركت على الفلاة ومن جريح وتركت خلفهم نساء عند أيتام تصيح, هل ذاك فيه مذمة؟


فبادره الثعلب المنافق :
- لا أنت أهل للمديح, أقتل جميع الناس يا ملك الوحوش لنستريح.


ولما جاء الدور في الاعتراف على الذئب قال :
- أما أنا فلقد أتيت على جميع الأرض خوفا, أمضي إذا نزل الظلام فأخطف الأطفال خطفا, ولكم أتيت فضائعا لا أستطيع لهن وصفا, هل ذاك فيه مذمة؟


فأجابه الثعلب :
- كلا ففضلك ليس يخفى.


فانبرى الضبع معترفا :
- أنا إن خرجت إلى الحقول وكانت الدنيا ظلاما ورأيت أشخاصا كثارا رحت ألتمس السلاما, لكن إذا أبصرتهم متفرقين غدوا عظاما, هل ذاك فيه مذمة؟


فقال له الثعلب بخبث :
- حاشاك أن ترضى ملاما, شر المنازل للفتى ما ليس ينفع أو يضر, إن الشجاع إذا رأى خطرا يحيط به يفر.


ثم التفت إلى الحمار وقال له :
- والآن ما لك يا حمار لزمت صمتك مستريحا.


فبدأ الحمار في الاعتراف :
- قد كنت يوما جائعا والظهر يوشك أن يلوحا, فوجدت قرب الدير عشبا ذابلا في بعض ساحته طريحا.


فسأله الثعلب مستنكرا هل أكل منه. فقال الحمار نعم. فقال له الثعلب :
- قد اعترفت, فكن الذبيحا, فإنه من مس مال الوقف في قانوننا دمه أبيحا, هذا الذي جلب الوباء بأكله مال الصوامع واستحل دماءنا, فخذوه اذبحوه واجعلوا من دمه قربانا يكون شفاءنا.


وهكذا نجت الحيوانات الكاسرة فيما تمت التضحية بالحمار لبلادته.

إرسال تعليق

0 تعليقات