صم بكم
شاءت الأقدار أن يصادف إطلاق العمل بلغة الإشارات في البرلمان للصم والبكم إطلاق كلمة نابية من فم وزير ستدخل التاريخ النيابي المغربي من أوسع الأبواب.
ويبدو أن السادة البرلمانيين والوزراء مطالبون بتعلم لغة الصم والبكم لكي يشرعوا في التواصل بها في ما بينهم تحت القبة، حتى إذا شتم أحدهم زميله بكلمة من معجم «السمطة» وأسفل منها فوتوا على المشاهدين سماع تلك السفاهة وفهمها.
والذين يطالبون رئيس الحكومة بإقالة محمد الوفا لأنه قال لأحد البرلمانيين في مجلس النواب «اذهب لكي تمارس القوادة»، لا يعرفون بنكيران جيدا.
فالرجل كلف محمد الوفا وزير الحكامة لديه بمسؤولية التدبير المفوض للشتائم التي لا يستطيع رئيس الحكومة التلفظ بها، ولذلك فعندما فكر الوفا في تقديم اعتذار عما قاله أرسل إليه بنكيران يقول له إنه إذا قدم اعتذاره فإنه سيسحبه هو شخصيا. بمعنى أن رئيس الحكومة متفق تماما مع وزيره في ما قاله من كلام بذيء لا يرقى إلى مستوى المنصب الذي يمثله.
وهكذا ففي ظل فشل وعجر هذه الحكومة ورئيسها عن تطبيق الإصلاحات التي وعدوا بها الشعب فإنهم يقومون بمشاغلته بالتهريج وخلق الفرجة حتى تمر بقية أشهر ولايتهم.
لقد فهم بنكيران أنه ليست له إمكانيات تحقيق طموحاته لذلك فكل ما استطاع أن يقوم به هو الاستعداد لتمويل إصلاح صندوق المقاصة من جيوب المواطنين عبر حذف دعم الدقيق ورفع أسعار الكهرباء.
فهم كانوا بحاجة إلى أكثر من عامين ونصف لكي يكتشف الرميد أن وضعية العدل في المغرب مخجلة، ولكي يكتشف الشوباني أن دعم الجمعيات تتخلله المحسوبية والزبونية والغموض، وأن يكتشف الخلفي أن الإطار القانوني لممارسة الصحافة بالمغرب متخلف.
وعوض أن يقدموا حلولا، لأننا ندفع لهم رواتب من ضرائبنا لهذا الغرض بالضبط، يستغرقون في توصيف إنشائي وشرح بليد للوضعية التي تعيشها قطاعاتهم، وينخرطون في سجالات عقيمة وتبادل مخز للشتائم والسباب.
وكل ما وجده رئيس الحكومة لكي يقوم به هو إعلانه عبر لسان حاله الطويل الخلفي أنه منذ اليوم سيشرع في الدفاع عن نفسه، «حنا يحساب ليها بنكيران غادي يجمع راسو وينوض يدافع على الشعب الساعة السيد يالاه غادي ينوض يدافع على راسو».
وقد بلغ به الغضب كل مبلغ فلم يتمالك نفسه في اجتماعه الأخير مع رؤساء أغلبيته وقال لهم حانقا «هداك نيني مغاديش يخلعني». وكأننا بممارستنا لواجبنا الإعلامي في مراقبة الحكومة وموظفيها العموميين نمارس رعبا حقيقيا على هؤلاء.
نعم أنا من حقي كصحافي أن أحاسبك وأراقبك يا سيادة رئيس الحكومة، لكن ليس من حقك كرئيس حكومة أو كوزير أن تراقبني أو أن تحاسبني، لأنني لا أتقاضى راتبي من أموال دافعي الضرائب مثلك ولست مسؤولا عموميا مثلك وإنما أنا صحافي أزاول مهنة حرة أتقاضى راتبي من كتاباتي ومن مقاولتي الإعلامية الخاصة. وإذا كنت لا تريد أن تخضع للمراقبة والمحاسبة فما عليك سوى أن تقدم استقالتك وأن تتخلى عن راتبك الحكومي وامتيازاتك التي تأخذها من جيوب دافعي الضرائب، آنذاك لن يتحدث عنك أحد، مثلما لا أحد يتحدث عن عباس الفاسي واليوسفي وكريم العمراني وكل الوزراء السابقين.
من يسمع رئيس الحكومة يشكو لمديرة صندوق النقد الدولي «كريستين لاغارد» ما كتبته الصحافة حول قدومها إلى المغرب من أجل محاسبته، ويسمعه يشتكي المعارضة لمضيفيه بأثينا، ويسمع ما يردده قياديو وبرلمانيو ووزراء وصحافيو الحزب الحاكم حول «الظلم» الإعلامي الذي تعاني منه الحكومة، يتصور أن كل الإصلاحات التي وعد بها رئيس الحكومة المغاربة متوقفة بسبب الصحافة.
كما لو أن الصحافة هي التي تمنع رئيس الحكومة من تطبيق إصلاح صندوق المقاصة وصناديق التقاعد والإصلاح الضريبي، وإذا توقفت هذه الصحافة عن الصدور فإن السيد رئيس الحكومة سيحقق كل ما وعد به المغاربة قبل سنتين ونصف.
إذا تبعنا هذا المنطق فإننا سنصل إلى خلاصة عجيبة وهي أننا، وهنا نتحدث عن أنفسنا طالما أن رئيس الحكومة نعتنا بالاسم، إذا توقفنا عن إصدار «الأخبار» وكتابة هذا العمود فإن المغرب سيكون أحسن مما هو عليه اليوم.
فنحن، حسب منطق رئيس الحكومة وحوارييه، الحاجز الوحيد أمام تطبيق الإصلاحات الكبرى التي جاء حزب العدالة والتنمية لتطبيقها.
وحسب علمنا المتواضع فنحن لا نقيد يد رئيس الحكومة لكي يخلق الشغل ويرفع من نسبة النمو ويخفض نسبة العجز. مع أن العجز الحقيقي والمزمن هو ذلك الذي يعاني منه السيد رئيس الحكومة. ولذلك فهو منذ سنتين ونصف لا يفعل شيئا آخر غير البحث عن مشاجب يعلق عليها فشله. ويبدو أنه عثر اليوم فينا على المشجب المناسب، فنحن بنظره نشوش على عمله، ولذلك استعمل حقه في ممارسة حرية التعبير وأن يوزع الاتهامات يمينا وشمالا لأنه قرر، كما قال الناطق الرسمي باسمه، أن يدافع عن نفسه بنفسه لأن الصحافة ليست مقدسة.
عندما سمعت هذا التوصيف الجديد لمعنى حرية التعبير حسب الحزب الحاكم، تذكرت اليوم الذي نزلت فيه ضيفا على برنامج إذاعي. ولأنني اخترت أن يكون الموضوع مفتوحا، فقد تحدث المتدخلون في كل شيء تقريبا. وما شد انتباهي هو مكالمة لأحد المستمعين قال فيها، بنبرة متهمة، إنني كنت وراء إسقاط اليسار من الحكومة، ويقصد الاتحاد الاشتراكي طبعا.
وعندما أخذت الكلمة قلت إن الصحافة في الدول الديمقراطية لا تستطيع فقط إسقاط وزراء حزب معين من الحكومة، وإنما تذهب إلى حد إسقاط الحكومة برمتها. والرئيس الأمريكي نيكسون، على جلالة قدره، سقط بمقالة صحافية فضحت تنصت الحكومة على هواتف الحزب الديمقراطي.
ففي الديمقراطيات العريقة، من الأفضل دائما أن تسقط أحزاب من الحكومة على أن تسقط البلاد في الفوضى.
وفي المغرب، نعمل كصحافيين، أو بعضنا على الأقل ممن لم يصبحوا يخصصون افتتاحياتهم للدفاع عن مصالح الشركات الكبرى والبنوك، على مراقبة عمل الأحزاب المشاركة في الحكومة، ليس حبا فيها وإنما حبا في المصلحة العليا للوطن.
وإذا كانت هناك أحزاب تسقط من الحكومة فليس لأن الصحافة هي السبب في ذلك وإنما لأن حصيلة هذه الأحزاب الضعيفة هي سبب سقوطها. ووزراء الاتحاد الاشتراكي الذين نزلوا من الحكومة لكي يسلموا المشعل للاستقلالي عباس الفاسي ووزرائه، يعرفون أكثر من غيرهم أن حصيلتهم الكارثية هي التي جعلت الشعب يصوت ضدهم خلال الانتخابات. نحن فقط شرحنا هذه الحصيلة الكارثية للرأي العام ووضحنا حجم التناقض بين ما كانوا يقولونه عندما كانوا في المعارضة وما أصبحوا يفعلونه عندما صاروا في الحكومة.
إذا لم تكن مهمتنا كصحافيين هي مراقبة عمل أمثال هؤلاء الوزراء ووضع وعودهم وبرامجهم محل مساءلة يومية، والمطالبة بمحاسبتهم على طريقة صرفهم لأموال دافعي الضرائب، فإنني لا أعرف ما هو الدور الحقيقي للصحافي، إذ ليس المهم أن يسقط حزب معين من الحكومة بسبب فشل وزرائه، المهم أن تبقى البلاد واقفة وليسقط بعد ذلك وزراء الحزب كله. فالمهم، في آخر المطاف، هو مستقبل البلد وليس مستقبل الحزب.
0 تعليقات
الصفحة رسمية لجريدة الأخبار المغربية