عمود شوف تشوف عد الاثنين 02 يونيو 2014




فرنسا حبيبتي

لا أعرف حقا لماذا تعكر مزاج فرنسا بهذا الشكل في تعاملها مع المغرب والمغاربة، مع أنها كانت تحبنا كثيرا في السابق، أقصد عندما كان يلزمها رجال أشداء لحفر المناجم وتشييد البنايات. لابد أنها الآن أصبحت في غنى عن كل هؤلاء ولهذا تطالبهم اليوم بالعودة إلى أوطانهم بسلام، أو ربما هي ككل أوربا مريضة بيمينها الذي يتعهد بالرعاية كوابيسها المرعبة.
أحببت فرنسا منذ طفولتي المبكرة، منذ أن كان عمري لا يتجاوز العقد الأول. فكرت فيها كثيرا لساعات طوال قبل أن أنام كل تلك الليالي البعيدة والباردة، تخيلت دائما أنها مدينة ألعاب عملاقة يمكن لطفل مثلي أن يعثر فيها على دراجة هوائية مثل أبناء المهاجرين الذين يصلون مع الصيف محملين بالدراجات الجميلة.
أحببت فرنسا لأسباب كثيرة، منها أن كل رسالة كنت أكتبها إلى عائلة تقطن بإحدى ضواحيها كانت تعود علي بهدية صغيرة، جارتنا كانت امرأة طيبة ككل أرملة، كان لديها إخوة في ضواحي باريس، وعندما كانت تصلها رسالة من أحدهم كانت دائما تبعث في طلبي، وكمترجم صغير وغير محلف، أمسك بالرسالة ذات المظروف الأبيض والطوابع البريدية الصغيرة حيث وجه سيدة بيضاء وباسمة اعتقدت دائما أنها الأم فرنسا شخصيا، أفتح الرسالة بأدب ثم أطالعها بصوت مسموع حتى يمضي الحنين الحارق الذي في الرسالة مباشرة إلى قلب السيدة الطيبة دونما وساطة قلبي الصغير.
عندما أنتهي من القراءة تحضر المرأة ورقة وقلما وتطلب مني والدموع تغطي عينيها أن أجيب على الرسالة، وتشرع بين لحظة وأخرى في مطالبتي بتكرار سلامها الحار إليهم، فأضيف سلاما كثيرا إلى الرسالة وأزيد أحيانا من عندي كلاما لا تقوله المرأة، يتعلق غالبا بأثمنة الدراجات الهوائية هناك.
عندما أنهي مهمتي تمنحني الجارة الطيبة برتقالة ويدعو لي أبوها بالنجاح في امتحان الشهادة الابتدائية وتقبلني أمها العجوز قبلتين إكراما لنجابتي. كانوا عائلة صغيرة بالكاد وكنا نسكن بجانبهم، ولم يكن بيتهم سوى تكملة لبيتنا وامتداد له.
في الصيف، عندما يصل إخوة الجارة محملين بزرابيهم الثقيلة وأواني الطبخ المستعملة وركام من الأحذية التي لا أول لها ولا آخر، نذهب لنبارك وصولهم. وعندما تمنحها المرأة الطيبة قارورة كبيرة من العطر تحمل صورة سيدة بقبعة كبيرة تكفي ليستحم بها كل أفراد العائلة، وصندوقا صغيرا من الشاي الصيني وصابونة وحزمة من أعواد الند ذات الرائحة الزكية.
كنت أغضب وأعلن الحداد أسبوعا كاملا من أجل أن ترضخ الأم لطلبي وتمنحني الصابونة، لا أعرف لماذا كنت أحصل عليها وأدسها تحت ثيابي مخفيا إياها من أجل حمام مؤجل، إلى أن تمر الأسابيع فأصادف علبتها المذهبة مرمية في الحمام، فأعرف بداهة أن أحدهم قد سرق الصابونة فأغضب من جديد بانتظار هدايا الصيف المقبل.
كان أحد إخوان المرأة الطيبة متزوجا من فرنسية، وكانت له بنت تصغرني بسنة أو سنتين، وكنا بحكم السن والجوار نلعب سوية. كانت هي تملك دراجة هوائية تركبها وتدور حولي مثل زوبعة جميلة، فيما أنا لم أملك غير شاحنة مضحكة مصنوعة من الورق المقوى وبعض الأسلاك الرفيعة التي عثرت عليها قرب محلات الحدادة. لم أكن أرى الطفلة، لم أكن أرى ثيابها الزاهية ولا تسريحة شعرها الغلامية، لم أكن أسمع كلامها الذي لا أفهم نصفه ولا ضحكتها المدللة، كنت لا أرى سوى الدراجة، أتفحص المقود البراق الذي ينتهي بمقبضين لينين بشكل ساحر، أتأمل العجلة الأمامية بمولد نورها الذي يدور رأسه الأسود فيولد الضوء، أتمنى أن تترجل الطفلة النزقة وتمنحني جولة فوق دراجتها، أتمنى أن أضغط على المكبح الخلفي والأمامي معا لأثير الغبار حولي، أن أسقط حتى، ويسيل الدم من جرح في ذراعي. أتمنى أن أسوق بسرعة وأن أجعل نور المصباح ينير العتمة التي تخيم على طفولتي.
لكن شيئا من هذا لم يحدث، وحدها الشيطانة الصغيرة تدور حولي مثل زوبعة، وأنا خجول بما فيه الكفاية ولا أستطيع أن أطلب منها دراجتها لبعض الوقت، ولم أفهم لماذا كانت تقسو علي فرنسا بهذا الشكل، لماذا لا تبعث إلي مع جيراننا دراجة صغيرة حتى أتأكد من طفولتي بشكل أحسن.
/>وهكذا، يمضي صيف ويأتي صيف وأنا أكتب الرسائل الجوابية والمرأة الطيبة تذرف الدموع وتضيف سلاما كثيرا إلى طلباتها الكثيرة وفي الأخير تمنحني حبة برتقال، وتقبلني العجوز قبلتين، ويدعو لي أبوها بالنجاح في آخر العام، وحفيدتهما تأتي مع الصيف الموالي ثم تدور حولي بدراجتها وتعذبني ثلاثة أشهر وتمضي.. إلى أن نبت لي شارب فجأة وأدركت أنني كبرت.
انتقل الجيران الطيبون إلى مدينة أخرى، لكن هداياهم كانت تصل بانتظام مع كل صيف.. قارورة العطر العملاقة وأعواد الند وصندوق الشاي الصيني والصابونة.
وبسبب القمصان الفضفاضة ذات الأعناق المتهدلة، تخيلت أن الفرنسيين كلهم أشخاص سمان، وكانت هذه القمصان تأتي إلى العائلة كهدايا من بعض الأقرباء الذين يجمعهم بنا دم غامض لم يفلح أحد حتى الآن في معرفة أصوله. كنت بسبب هذه القمصان أبدو مثل كركوز داخلها، ولم يكن يعفيني منها سوى تطاير أزرارها في مشاجرة أو تآكل أعناقها بسبب كثرة الاستعمال.
لكنني عندما كبرت فهمت أن الفرنسيين ليسوا سمانا إلى هذه الدرجة وأن القمصان المزعومة لم تكن من فرنسا إطلاقا، بل كان هؤلاء الأقرباء يشترونها بالجملة من أحد أسواق البيضاء قبل أن يصلوا إلينا، ولم يكن يفوتهم أن يشتروا صناديق الشاي وقوارير العطر من الأسواق إياها ثم يقدمون مشترياتهم إلينا كهدايا نادرة تجعلنا نكرم ضيافتهم طوال الصيف.
أخبرني جدي عندما كان حيا أنه اشتغل في فرنسا أيام كان شابا في بدايات هذا القرن. قبل أن يشحنوه مثل وديعة في السفينة، تفقدوا جيدا أسنانه وحاجبيه ومنخره ثم تركوه يمر لأنه كان قوي البنية. هناك اشتغل في أحد مناجم الفحم لبضع سنوات، ولأنه كان ذكيا، فقد فضل العودة إلى بلاده على قدميه قبل أن يعود داخل صندوق صقيل بشهادة وفاة تحت رأسه. كل أقرانه الذين مكثوا في المنجم ماتوا قبله بعشرات السنين، أما هو فقد ظل يتقاضى تقاعده البسيط إلى أن مات وسط أبنائه بسلام وعمره يناهز التسعين عاما.
عاد جدي من فرنسا قبل أن أولد وقبل أن تولد أمي حتى، واشتغل في مصنع للنسيج يديره فرنسي ثري، ثم اشترى دراجة هوائية فرنسية الصنع أيضا.
جدي كان يحب دراجته إلى درجة أنه كان يربطها بسلسلة إلى شجرة، كنت أقف أمامها مشدوها ويائسا تماما وأتأمل اليافطة المعلقة أمام المقود «صنعت في فرنسا»، فيزداد كرهي للسلسلة التي تربط الدراجة إلى الشجرة.
كنت دائما أقول إنني عندما سأكبر سأذهب إلى فرنسا هذه وسأتخير لنفسي واحدة من أجمل الدراجات، وربما أبحث عن زوجة وأستقر هناك.
الآن أعتقد أنني أحتاج إلى دبابة ثقيلة لأدك كل هذه الأحلام الرائعة حتى لا تكبر وتشيخ باكرا مثلي.

إرسال تعليق

0 تعليقات